٤،١٣،٩٠ - المجانين
(١) كنت في شبابي رجلا مستورا. أغدو من بيتي على دكاني التي أبيع فيها : الفجل والباذنجان والعنب، وسائر الخضراوات والثمار؛ فأربع في يومي قروشا معدودات، فأشتري بها خبزا ولحما وأخذ ما تبقى من الخضراوات عندي في المحل إلى البيت: فتطبخه زوجتي طعاما لي ولها . ولم يكن لنا آنذاك أولاد . فكنا نأكل هذا الطعام المتواضع ، وتنام حامدين ربنا على نعمائه وفضله. ولا نطلب من أحد شيئا، ولا أحد يطلب منا شيئا.
(۲) في يوم من الأيام، حلت الفرحة العارمة بيتنا ! لقد حملت زوجتي بمولود فحمدت الله كثيرا على أن عوضنا عن صبرنا الطويل بهذا المولود. وصرت أدلل زوجتي الحامل، وأقوم عنها بكثير من أشغال البيت.. خشية أن يسقط حملها بسبب التعب والإرهاق...
( ۳ ) وصرت أنا وزوجتي نعد الساعات والأيام انتظارا لساعة الولادة السعيدة المرتقبة. حتى كانت ليلة المخاض فسهرت الليل أرقب وصول المولود الجديد ، فلما انبلج الفجر، سمعت الضجة، وقالت القابلة التي تولد النساء في حينا : البشارة... لقد رزقت ولدا! كانت الأرض لا تكاد تسعني من شدة الفرح بهذا المولود الجديد : فإن ضحك ضحكت لنا الحياة، وإن بكى تزلزلت لبكائه الدار، وإن مرض اسودت أيامنا ، وتنقصت عيشتنا . وكان كلما نما وشب قليلا قليلا، كان لنا كالعيد . وكلما نطق بكلمة، جدت لنا فرحة . وصار إن طلب شيئا بذلنا في إجابة طلبه الروح وبلغ ولدنا الوحيد سن المدرسة فقالت أمه : إن الولد قد كبر، فماذا نصنع به؟ فقلت لها : أخذه إلى دكاني، فيتسلى ويتعلم الصنعة، لتنفعه في المستقبل. فقالت لي: أتريده أن يكون بائع خضراوات ؟!!! فقلت لها بغضب: ولم لا؟! وهل يترفع أحد عن مهنة أبيه؟! فقالت: لا والله لا يكون هذا أبدا، بل لا بد أن ندخله المدرسة مثل ابن جارنا . أريد أن يصير ابني موظفا» في الحكومة.
(٤) وأصرت المرأة على رأيها إصرارا عجيبا : فسايرتها وأدخلته المدرسة. فصرت أقتطع من طعامي وطعام زوجتي : لنوفر له مصاريف الدراسة وثمن الكتب. وكان ولدنا هو الأول في صفه ... وأحبه معلموه وقدروه . ونجح ولدي في الامتحان، ونال الشهادة الابتدائية. قلت لها حينئذ : يا امرأة !! لقد نال إبراهيم الشهادة الابتدائية فحسبنا ذلك وحسبه ... ليدخل الدكان، وليتعلم له حرفة . قالت: أيضيع مستقبله ودراسته من أجل دكان خضراوات؟! لا بد من إدحاله المدرسة الثانوية . ورفضت ذلك، فأخذت تولول وتصيح. وانقلب البيت إلى جحيم لا يطاق. فاضطررت إلى الموافقة على دخوله للمرحلة الثانوية. وازدادت التكاليف، وعظمت الأعباء وأنا صابر محتسب أكتم في صدري، ولا أبوح لأحد بشيء منها . وبالفعل مرت السنوات، وحصل ولدنا ، إبراهيم على الشهادة الثانوية. فقلت حينها : والآن هل بقي شيء؟!! فقال الولد : نعم يا أبي أريد أن أسافر إلى أوروبا، لأدرس المرحلة الجامعية هناك !! فقلت : أوروبا ؟!! وما أوروبا هذه؟! فقال: إلى باريس لأدرس هناك. فقلت: أعوذ بالله !! والله العظيم لا يكون هذا أبدا وأنا حي !! وأصررت على موقفي. وأصر ولدي على موقفه من السفر، وناصرته أمه. فلما رأتني لا ألين ولا أرضخ لمطالبهما ، باعت سوارين وقرطين، أعطيتهما إياها ليلة عرسنا، وهما كل ما تملكه من حلي احتفظت بها مدة لنوائب الدهر ، ودفعت ثمن تلك الحلي لولدها، فسافر إلى فرنسا على الرغم مني. وغضبت على إبراهيم غضبا شديدا . وقاطعته مدة فلم أكن أجيب عن رسائله، التي كان يبعث بها إلينا من فرنسا . ثم رق قلبي له وأنت تعلم ما في قلب الوالد على ولده الوحيد. وصرت أكاتبه، وأسأله عما يريد. فكان دائما يطلب منى نقودا . لتكون مصروفا له أثناء دراسته في فرنسا . في البداية كان يقول : أرسل لي عشرين ليرة ... وثلاثين ليرة ... فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز الجاف لأجل توفير المبلغ الذي يطلبه ابننا الذي يدرس في فرنسا.
(٥) وكان رفاقه وزملاؤه الذين يدرسون معه. يجيئون في إجازة الصيف إلى أهليهم وذويهم ليزوروهم، وكان هو لا يجيء ولا نراه. وكان يعتذر دائما عن عدم حضوره إلينا في إجازة الصيف بحجة كثرة الدروس . تطور الأمر، فصار ولدي يطلب مئة ليرة وفي مرة أخرى، طلب مني أن أرسل له ثلاثمثة ليرة فكتبت إليه أخبره بعجزي عن تدبير المال، ونصحته ألا يحاول تقليد رفاقه وزملائه فإن أهلهم أثرياء موسرون ونحن فقراء على قدر حالنا . فكان جوابه على نصيحتي تلك برقية مستعجلة، يطلب فيها إرسال المال إليه حالا ، وفي أسرع وقت ممكن . وأمام إلحاح الزوجة، وضغطها المتواصل، وعاطفة الأبوة، والخوف على ولدي أن يكون في ورطة كبيرة لا خلاص له منها إلا بالمال - تحت تأثير كل ذلك - بعت داري التي أسكنها !! نعم !! لقد بعتها بنصف ثمنها . لقد كانت تساوي أربعمئة ليرة. فبعتها بمثتين لأجل ولدي الحبيب. واستدنت باقي الثلاثمثة وبعثت لولدي . إبراهيم بالمال وأخبرته بأني قد أفلست تماما. وانقطعت رسائله عنا تماما .. من حين أخبرته بالإفلاس الكامل.
(٦) ومر على سفره سبع سنين كاملة لم ر فيها وجهه قط . وحاولنا أن نبحث له عن خبر، فلم تفلح في ذلك . فسلمنا أمرنا لله . وبقيت بلا دار؛ فاستأجرت غرفة صغيرة، سكنت فيها أنا وزوجتي، ولا حقني صاحب الدين يطالبني بسداد دينه ... فعجزت عن قضائه. فأقام علي دعوى في المحكمة، وناصرته الحكومة علي : لأنه أبرز لهم أوراقا، لم أدر ما هي!! فسألوني : أأنت وضعت بصمتك في هذه الأوراق؟ فقلت: نعم ! ... فحكموا علي بأن أعطيه ما يريد، وإلا فالحبس ينتظرني. وحبست يا سيدي بسبب ولدي، الذي لم أر وجهه منذ سبع سنوات يا وبقيت زوجتي المسكينة وحدها وما لها أحد إلا الله عز وجل فاضطرت هي للعمل غسالة لملابس الناس... وخادمة في البيوت... وشربت كأس الذل ... وتجرعت شراب المهانة في تلك البيوت حتى الثمالة...
(۷) خرجت من السجن بعد فترة تزيد على السنة ... فقال لي رجل من جيراننا القدامى: يا أبا إبراهيم أما رأيت ولدك؟ فقلت له: بشرك الله بالخير! أين هو ؟!! فقال مستغربا : ألا تدري يا رجل أين ولدك الآن... أم إنك تتجاهل ؟!... هو في الحي الجديد . في البداية ... لم أصدق ما قاله جارنا ؛ إذ كيف يعود ابني العزيز إبراهيم من سفره من فرنسا ثم لا يسأل عني، ولا عن أمه. ولكني كنت أثق بكلام جاري... فما جربت عليه كذبا قط... فتحاملت على نفسي وأنا غير مصدق لما أسمع وذهبت أنا وأمه إلى داره الفخمة في الحي الجديد، وما لنا أمنية في هذه الحياة، إلا أن نعانقه. كما كنا نعانقه وهو صغير ، ونضمه إلى صدورنا، ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل.
( ۸ ) وما قرعنا باب الدار، فتحت الباب لنا الخادمة. فلما رأتنا بملابسنا المتواضعة، اشمأزت من هيئتنا ... ثم قالت بتأفف: ماذا تريدون؟ فقلنا نريد إبراهيم فقالت: إنه لا يقابل الغرباء في داره. اذهبا إلى مقر عمله، وقابلاه هناك واطلبا منه ما تريدان. فقلت لها مغضبا. أنحن غرباء. أنا أبوه وهذه أمه فسخرت الخادمة من كلامنا ولم تصدقنا. فدخلنا معها في صياح ونقاش. وسمع ، إبراهيم وزوجته ضجتنا وصياحنا مع الحادمة، فخرج مغضبا وهو يقول: ما هذا الصياح؟!!... ولماذا كل هذا الصياح؟ لماذا كل هذا الضجيج؟! وخرجت وراءه زوجته الفرنسية. فلما رأته أمه أمامها بعد غيبة سبع سنين، مدت يديها إليه، وهمت بالقاء نفسها عليه، والارتماء في أحضانه، ولكنه بكل أسف ابتعد عنها ، ونفض ما مسته يداها من ثوبه الأنيق. وقال لزوجته : هؤلاء مجرد مجانين ثم أعطانا ظهره، واستدار عائدا إلى داخل الدار
(۹) وأمر الخادمة أن تطردنا من الباب... فطردتنا الخادمة شر طردة من بيت ولدنا، الذي ضعينا من أجله بكل شيء أصابتني وأمه صدمة كبيرة على إثر هذا الموقف... أهكذا يا إبراهيم تفعل بوالديك ؟!! ... كم ليلة سهرنا لتنام !!.. وجعنا لتشبع؟! وتعرينا لتلبس؟! وبكينا لتضحك ؟ !! والآن تطردنا من بيتك شر طردة ... وتتبرأ منا ... بل تتهمنا بالمجانين. نعم مجانين حين ربيناك وعلمناك، وأنفقنا عليك الغالي والنفيس، وكل ما نملك. أما والله لو علمت أنك ستفعل بنا هذا عندما تكبر لقتلتك بيدي هاتين يوم ولادتك، فموت مثلك خير من حياته