"بَس تربية؟" (1)
السلام عليكم.
1. لماذا أُنجِب أصلًا وأتحمَّل تعب الأولاد؟! هل لمجرَّد أن أبدو طبيعيَّةً كباقي الناس؟
2. هل الأولاد نِعمةٌ بالفعل، وهُم في صِغرهم مصدر إرهاقي وشدِّ أعصابي،
ثمَّ إذا كبروا قليلًا عاشوا في عالمهم الخاصِّ بعزلةٍ عنِّي،
ثمَّ إذا استقلُّوا وتركوا البيت تركوني لحُزني واكتئابي،
ولزوجٍ توتَّرت علاقتي به لأجلهم؟!
3. هل يُعقل أن أرسل أبنائي للمدرسة حتَّى إن أحسستُ أنَّها لا تقوم بدورها،
لكن من قبيل أن أرتاح مِن (دَوْشَتِهم) لبضع ساعاتٍ أشوف فيها حالي شوية؟
4. تقولون أنَّ مِن أهمِّ أعمال المرأة تربية أبنائها، بس تربية؟!
قُدراتي وطاقاتي ووقتي ومواهبي أشغلُ معظم ذلك بالتربية فقط؟!
5. ألا يكفي أنِّي وضعتُ أولادي في مدرسةٍ نصرِفُ عليها مبالغ ضخمةً؟
6. إذا أردتُ أن أبرِّئ ذمَّتي تجاه أولادي،
ما الأمور التربويَّة التي يمكن أن أذهب بها إلى المدارس عند تسجيل أبنائي
وأسألهم عن برامجهم لتحقيقها؟
7. ما هي قصَّة الطبيبَيْن اللذين كانا يُعطيان مرضى السرطان ماءً وملحًا؟
وما علاقة ذلك بالتربية؟
8. تحذِّروننا من الألعاب الإلكترونيَّة
وتوفير الموبايلات للأولاد يفتحون فيها على ما شاؤوا،
طيِّب، وكيف أملأ فراغهم؟
هل المطلوب أن أملأ فراغهم كلَّه بنفسي، وأنسى حالي؟
9. ماذا إذا كنتُ لا أجد نَفْسي في زوجي وأولادي،
وإنَّما في العمل التطوُّعيِّ والتثقيفيِّ بل والدعويِّ، أليست هذه أهدافًا ساميةً؟
10. زوجي لا يتعاون معي على تربية أولادنا، هل من العدل أن أتحمَّل الحِملَ وحدي؟
11. حاولتُ أن أُصلح ابني أو ابنتي، لكنَّه ضلَّ وانحرف،
وأنا مُحبَطةٌ حزينةٌ عليه، فماذا أفعل؟
12. لماذا يظهر موضوع التربية عميقًا وليس بالسهل؟
أليست المسألة أبسط من ذلك، و«كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة» [البخاري ومسلم]؟
بدايةُ القصَّة -يا كرام-:
خَلَق اللهُ الخلق لغاية؛
العبوديَّة لله بمفهومها الشامل، الذي تكلَّمنا عنه المرة الماضية.
هذه العبوديَّة تحتاج نفوسًا شريفةً،
عبَّر عن تشريفها الحفاوة باستقبال الإنسان وسجود الملائكة له، ثمَّ تسخير كلِّ شيءٍ لخدمته
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13]؛
كلُّ شيءٍ هو لأجلك وفي خدمتك لتحقِّق هدف وجودِك من العبوديَّة لله بمفهومها الشامل.
ستحتاج اكتساب صفات الشرف والكرامة لَتْرقى نفسُك لمهمَّة العمل للغاية العظمى،
ولتحصيل العزَّة والتمكين والاستخلاف اللائق بأولياء الله،
لذلك: ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ [الإسراء: 15]،
فأنتَ المُستفيد في عمليَّة تأهيلها هذه، بالإضافة إلى النعيم المُقيم في جنَّات الخلود.
في المقابل؛ مَن تًغًافل عن غاية وجوده ونسي ربَّه حُرِم هذا الشرف،
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]؛
أنساهم أن يعملوا لخير أنفسهم وأن يزكُّوها
ويبنوا منها إنسانًا يعمل للغاية العظيمة التي وُجد مِن أجلها.
عندما أستحضِرُ أنَّ غاية وجودي هي العبوديَّة لله، وما يَتْبَعُها مِن نعيمٍ
فإنَّ أفعالي كلَّها تصبُّ في تحقيق هذه الغاية، حتَّى الأفعال الفِطريَّة كالزواج والإنجاب،
ومِن جمال العبوديَّة لله أنَّها تُعزِّز لنا الاستمتاع الفطريَّ بنعمة الأولاد،
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]؛
قُرَّةَ أعيُنٍ في الدنيا وفي الآخرة.
مقابِلَ الذين نَسُوا الله فانقلبت قرَّة العين عذابًا،
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ...
...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُعَذِّبهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55].
أبنائي امتدادٌ لمشروعي بعد وفاتي، «أو ولدٌ صالحٌ يدعو له» [رواه مسلم]،
لكنْ حتَّى يكونوا كذلك
لا بدَّ مِن أنْ أبنِيَ فيهم الإنسانَ الشريف الكريم كما أحبَّ الله له أن يكون،
وهذه هي التربية.
كلُّ هذا يجعلُ أبنائي وتربيتهم في بؤرة اهتماماتي، يُصبِحون أهمَّ مشاريعي.
تبدأ المشكلة -إخواني- إذا نسينا الغاية العظمى من العبوديَّة لله في هذا كلِّه،
وبما أنَّ هذه الكلمة هي ضمن سلسلةٍ لكِ أنتِ أيَّتها المسلمة،
فسيكون تركيزنا فيها على نفسكِ أنتِ، دورها في التربية؛
لأنَّها ضمن دائرة النجاح في الأساسيَّات -التي تكلَّمنا عنها،
قبل أن تنطلِقي لمحاولة النجاح والبحث عن الذات في مجالاتٍ أخرى،
تائهةً عن خارطة الأساسيَّات والأولويَّات -التي تكلَّمنا عنها.
التربية مسؤوليَّةٌ مُشتَرَكةٌ من الزوجين،
ماذا إذا قصَّر الأب؟ سنُجيب،
لكنْ حديثُنا الآن هو لكِ أنتِ أيَّتها الكريمة.
كثيرٌ من النساء عندما تسمع كلمة (تربية)، لا تَجِدُ لها وَقْعًا كبيرًا في حسِّها…
- تربيةٌ؟! أولادي يذهبون للمدارس، وقد حرصتُ أن أسجِّلهم في مدارسَ مُحافِظةٍ،
وبيئاتٍ آمنةٍ نسبيًّا، سيَتَربَّون كما تربَّيت أنا، ماذا عليَّ أكثر مِن ذلك؟!
- طيب، تعالي نستعرِضُ معًا ماذا تعني (التربية)،
ثمَّ نرى إنْ كان ابنكِ يُحصِّلها في المدارس أو المجتمع بالفعل...
1. (تربية) تعني: أن تربِّي أبناءكِ على معاني الحياء،
الشهامة، النخوة، الرحمة، الكرامة، العزَّة، رفض الظلم، الغضب لله،
الغَيْرة على الحُرُمات، النهي عن المنكر،
قوَّة الشخصيَّة في هذا العالم الذي يُحاوِل سَحْق هذه المعاني بكلِّ الوسائل،
ومنها التعليم والإعلام وأفلام الكرتون والألعاب الإلكترونيَّة
بما فيها من إيحاءاتٍ مدروسةٍ تهدِم الحياء وتُنمِّي العنف.
2. (تربية) تعني: أن تعلِّمي ابنكِ كيف يفكِّر، كيف يطرحُ الأسئلة الصحيحة،
كيف يعبِّر عن نفسه،
كيف يميِّز بين العلم الحقيقيِّ والعلم الزائف،
كيف ينقُد الأفكار التي تُعرَض عليه،
كيف يعرِف المُغالطات في النقاش التي يستخدمها المُبطِلون ليشكِّكوه في دينه،
كيف يتحقَّقُ من المعلومة.
3. (تربية) تعني: أن تُعيني ابنكِ وبنتكِ على اكتشاف نَفْسِه واستثمار جوانب قوَّته،
ومن ثمَّ على اختيار الأهداف التي تناسب قدراته وظروفه، ويساهم بها في إعزاز أمَّته.
أن تعلِّمي الولد أن كُن نَفْسك، تقبَّل نَفْسك، لا تتقمَّص شخصيَّة غيرك،
ولا تحسَّ بالفشل إن لم تُحقِّق ما حقَّقه غيرك،
ولا ترسم أهدافًا لا تُناسبك، فلكلٍّ شخصيَّته،
لأنَّ ابنك بغير ذلك لن يَقْنَعَ ولن يَسْعَد.
4. (تربية) تعني: أن تدُلِّي أبناءك على الإجابات عن الأسئلة الوجوديَّة الكبرى:
من أنا؟ مَن خَلَقني؟ إلى أين المصير؟ ما الغاية من وجودي؟ لماذا أنا مسلمٌ؟
ما الأدلَّة على أنَّ القرآن مِن عند الله؟
ما الأدلَّة على نبوَّة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم؟
كيف حُفِظ القرآن والسنَّة اللذان أرجعُ إليهما في حياتي؟
5. (تربية) تعني: أنَّ الولد ما يصير عمره (22) سنةً
أمضى منها (18) سنةً في المدارس والجامعات وهو لا يعرف إجابة هذه الأسئلة،
بل ولا يعرف كيف يفكِّر، فكلمةٌ تجِيبُه وكلمةٌ تودِّيه،
ومقالٌ تافهٌ أو مقطع فيديو يَخْلَعُه من دينه بكلِّ سهولةٍ،
ويناقش بكلِّ سذاجةٍ فاقدًا لأدنى مقوِّمات التفكير الصحيح والنقاش العقلانيِّ والنقد العلميِّ،
وهو ماخِذ بنفسه مقلب أنَّه متعلَّم! بل وربَّما مهندسٌ ولَّا طبيبٌ ولَّا دكتورٌ جامعيٌّ…
6. (تربية) تعني: أن تربطي أبناءكِ وبناتك بالرموز الحقيقيَّة في تاريخهم الإسلاميِّ،
وتُعرِّفيهم بتاريخ أمَّتهم ليعلموا أنَّ لهم جذورًا عميقةً ويعتزُّوا بها،
بدل أن يكونوا طحالب إمَّعاتٍ مقلِّدين للزُناة والمخمورين
وتائِهي مشاهير الـ(Social Media) في لباسهم وقصَّات شعرهم وحركاتهم...
7. (تربية) تعني: تعويد ابنك أن يطرح سؤال: (لماذا أفعل ذلك؟) في كلِّ ما يفعل؛
فهو ليس قَطِيعيًّا مقلِّدًا تقليًدا أعمًى.
8. (تربية) تعني: أن تنمِّي في طفلكِ مَلَكة التَّنبُّه للمُدخَلات،
فينتبِه لحِيَل وسائل الإعلام وطُرقها في محاولة إعادة صياغة نفسيَّته وقِيَمِه،
وأذكر كيف كان أبي رحمه الله ينبِّهُنا على ذلك بمناقشة بعض ما نُشاهد، وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ.
9. (تربية) تعني: أن تُحبِّبي إلى ابنك وابنتك طلب العلم النافع في كلِّ المَجالات،
وعلى إمساك الكتب ومتابعة السلاسل، وشعارهم
«احرِص على ما ينَفُعك» [رواه مسلم]،
ويشعر بالامتلاء العقليِّ والروحيِّ
بدل الفراغ الذي يدفعهم إلى متابعة تَوافِه (اليوتيوبرز)،
أو الإدمان على المقاطع الإباحيَّة، أو العيش في وَهْم الألعاب الإلكترونيَّة...
10.(تربية) تعني: أن تولِّدي لدى ابنكِ الحافزيَّة ليتعلَّم ما يُعينه على اتقان أدوات عصره،
ليكون مؤثِّرًا وناجحًا كمسلمٍ؛
فيتعلَّم استخدام التقنية، إدارة المال، مهارات الإقناع،
مهارات القيادة، والعمل في فريقٍ…
11. (تربية) تعني: أن تربطي أبناءكِ بالصُّحبة الصالحة، وتبحثي لهم عن رفاق الخير بحثًا،
حتَّى وإنْ احتجتِ أن تعملي علاقاتٍ مع أمَّهاتٍ لتوفِّري المَحَاضِن الآمنة ورِفاق الصلاح لأبنائك.
12. (تربية) تعني: أن تعلِّمي أبناءكِ وبناتكِ ما نبثُّه هنا
من حقوق كلِّ فردٍ من أفراد الأسرة، وواجباته وأولويَّاته،
وتعلِّمي ابنك أن يصِلَ إخوانه، ويحنَّ على أخته.
13. (تربية) تعني: أن تعلِّمي أولادك الجِديَّة وتحمُّل نتائج أفعالهم،
وتوقُّع الألم في الحياة والتعامل معه بصبرٍ ورضا،
وأنَّهم ليسوا في هذه الحياة للراحة والركُون إلى الدنيا،
وأنَّها دار بلاءٍ لا دار جزاءٍ.
14. (تربية) تعني: أن تربطي أبناءك بالقرآن، وتنمِّي لديهم مَلَكة فهمه والاستدلال به،
ممَّا سيتطلَّب منكِ تحبيب اللغة العربية إليهم.
15. (تربية) تعني أن تعلِّمي أبناءك أنَّ شرع الله حاكمٌ على حياة المؤمن،
وألَّا يعترفوا بأيَّة مرجعيَّةٍ غيره،
في زمنٍ يُراد لدين الله أن يُحصَر في شعائرَ محدودةٍ،
ويكون التقديس والتعظيم لأهواء البشر.
16. (تربية) تعني: أن تجعلي أعظم قيمة لدى أبنائك توحيدَ الله، تعظيم الله،
محبَّة الله ورسوله، لتكون فوق كلِّ محبَّةٍ، وتُجنِّبيهم ما يَشُوب التوحيد.
17. (تربية) تعني: أن تعلِّمي أبناءكِ الانتماء إلى أمَّتهم الإسلاميَّة والاهتمام بأحوالها،
وتحويل الهمِّ لها إلى العمل بإيجابيَّة دون يأسٍ ولا إحباطٍ.
18. (تربية) تعني: بناء العلاقة الوطيدة مع أبنائك، والمحبَّة والثقة والاهتمام بهم،
وسَمَاع مشاكلهم والصداقة معهم،
وبغير ذلك لن تحقِّقي الأهداف التي ذكرنا.
19. (تربية) تعني: أن تتعرَّفي على خصائص كلِّ مرحلةٍ عُمريَّةٍ لأبنائكِ وما يلزم لها،
مع تنويع الأساليب كالقصَّة واللعبة والنشاط الجماعيِّ...
20. (تربية) تعني: أن تُعيني ابنك وابنتك على معالجة المشاكل
التي تعرِض لهم في طريق بناء شخصيَّاتهم،
كما تحرصين على علاج أمراض أجسادهم، بل وأكثر.
21. (تربية) تعني: أن تكوني قدوةً عمليَّةً
تتمثَّلين هذه المعاني كلَّها في ذاتكِ قبل أمرِ أولادك بها؛
فدمعةٌ صادقةٌ منكِ عند قراءة آيةٍ أو ذِكر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-
ستفعل فِعْلها في قلب أولادك أكثر من ألف درسِ دينٍ في المدرسة.
إصرارك على ولدك أن يقوم إلى صلاة الفجر أكثر من إصرارك عليه أن يقوم إلى المدرسة
يبني تعظيمَ اللهِ في قلبه، ويجعلُ (اللهَ أولًّا) في حياته بالفعل.
أداؤكِ لدوركِ في غياب والِدهم كما هو في وجوده يعلِّمهم أن يجعلوا مراقبة الله نصب أعينهم،
بِرُّكِ بوالديكِ وخدمتهما،
قراءتك كتبًا منهجيَّةً أمام الأولاد ومعهم،
وعدم الاقتصار على متفرِّقات مواقع التواصل، تجعلهم يألَفُون القراءة،
ولن تحتاجي بعدها أن تملأي وقتهم بنفسك ما دمتِ قد وضعت قدمهم على الطريق.
في المحصِّلة، (تربية) تعني: أن تبني الإنسان الذي يعمل لغايةِ:
تحقيق العبوديَّة بمفهومها الشامل لصلاح الدنيا والآخرة.
عرفتِ -يا كريمة- ما معنى تربية؟ ما معنى بناء الإنسان؟
عرفتِ ما معنى: «وهي مسؤولةٌ عن رعيَّتِها» [رواه البخاري ومسلم]،
ومعنى قول نبيِّنا في الحديث الذي أخرجه [البخاري]،
وهو حديثٌ مُخيفٌ يُشعركِ بعِظَم المسؤوليَّة:
«ما مِن عبدٍ اسْتَرعَاهُ اللهُ رعيَّةً فَلَم يَحُطْها بِنُصْحِه إلَّا لم يجِد رائحةَ الجنَّة».
انظري إلى التعبير النبوي: «فَلَم يَحُطها بنصحه»؛
مطلوبٌ منكِ تحيطي أولادكِ من كلِّ مكانٍ،
ليس بكثرة النصائح والانتقادات، فهي تُحدِث السآمة والنفور من أولادك تجاهك؛
وإنَّما بالقدوة العمليَّة والتوجيهات عند الحاجة،
وحمايتك لهم ممَّا يضرُّهم، وحَزْمكِ في ذلك، مع عطفكِ وودِّك.
تُحيطيهم حتَّى تحميهم من سهام الشهوات والشبهات اللي جاية عليهم من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ.
أنتِ المؤهَّلة لبناء هذا كلِّه في ابنك،
أنت المؤهَّلة لترسيخ الأمانة في قلوب أبنائك بسلوكك العمليِّ،
كما في حديث حذيفة بن اليمان قال: حدثَّنا -يعني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
«أنَّ الأمانة نَزَلت في جَذْر قلوبِ الرجال، ثمَّ علِموا من القرآن،...
ثمَّ عَلِموا من السُّنَّة» [رواه البخاري]؛
الأمانة، الصدق مع النفس، التي إنْ رسَّختِها في قلوب أبنائكِ نَفَعهم القرآن والسُنَّة،
وإن لم تزرعيها لم ينفعهم شيءٌ، وكانوا أرقامًا في ظاهرةِ الغثائيَّة والنفاق.
سفيانٌ الثوريُّ قالت له أمُّه: "يا بُنيَّ، اطلب العلم وأنا أكفيكَ مِن مِغزَلي"؛
يعني أحِيكُ الملابس وأبيعها وأُنفق عليك، لكن أنت تفرَّغ لطلب العلم،
"يا بنيَّ، إذا كتبتَ عشرةَ أحاديثٍ فانظر
هل ترى في نفسك زيادةً في مشيك وحِلمك ووقارِك؟"؛ يعني في الأخلاق،
"فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنَّه يضُرُّك ولا ينفعك" [صفة الصفوة]،
لم تقل له: جيب علامة على شان نُفاخِر بيك، وتكون أحسن من ابن عمِّك،
وإنَّما: أريدُ للعلم أن يؤثِّر في أخلاقك. تُعلِّمه أمانة العلم.
نشأ الإمام أحمد بن حنبل والشافعيُّ يتيَمْين، وتولَّت أمُّ كلٍّ منهما تربيته،
فأصبحا مِن سادة الأُمَّة في العلم والعمل.
أنتِ المؤهَّلة لهذا كلِّه لأنَّهم أبناؤكِ،
لن تعوِّض المدرسة ولا الحضانة ولا الروضة ولا الشغّالة عنكِ أنتِ،
فليست النائحة الثَّكْلى كالمُستَأجَرة،
فلا تستغرِبي لمَّا الإسلام كرَّم الأمَّ وجعل الجنَّة عند رِجْلِها.
تصوَّري -بعدَ هذا كلِّه- لمَّا كنتِ تقولي لنفسكِ: (بس تربية)؟!
وتحُطِّي بعد سؤالكِ استفهام وتعجُّب، بينما كلمتكِ هذه بحاجةٍ إلى ألفِ تعجُّبٍ.
كلُّ هذه الأركان لتربية النَّفْس البشريَّة
أصبحت الثقافةُ السائدة: أنَّها (بتيجي لحالها) مش ضروري نتعلَّمها،
بينما الشهادات الجامعيَّة نصرِف لها عشرين سنةً من حياتنا.
أكبرُ رسالةٍ سلبيةٍ نُوصِلها لأولادنا بذلك:
أنَّ العبوديَّة لله -بمعناها الشامل- ليست هدف حياتنا،
وهم يتشرَّبُون هذه الغفلة يوميًّا مِن سلوكنا،
يعبِّر عن ذلك تعليق إحدى الأخوات على حلقة (المرأة والبحث عن الذات) إذْ قالت:
"أعتبرُ نَفْسي ضحيَّة هذا التفكير، فتربيتي كانت على هذا: ذاكري وفقط -يعني ادرسي فقط،...
لا نريد منكِ إلَّا الانكباب على الكتاب لتحصُلي على أعلى الدرجات وتدخلي كليَّةً مميزةً،...
دخلت ثم تزوَّجت بدون أيِّ تأسيسٍ أو تعليمٍ لكيفية إدارة البيت...
أو التعامل مع الزوج أو تربية الأبناء،...
وفوق كلِّ هذا إحساسٌ قاتلٌ بالذنب لأنِّي لم أكمل دراساتٍ عُليا بعد الجامعة،...
الأهل يوصلون رسائل أنَّ قيمتكِ فيما وصلتِ إليه من مركز،...
وما حقَّقتِه من إنجازٍ في مجال العمل،...
أمَّا بيتكِ فهذا تحصيل حاصل، كلُّ النساء يفعلنه،...
لا يهمُّ كيف ولا يهمُّ النتيجة، المهم نفتخر بك".
إذَن، "أمَّا بيتك فتحصيل حاصل، كلُّ النساء يفعلنه، المهم نفتخر بك"
والأخرى تعلِّق بأنَّ زوجها يعيِّرُها:
"لماذا لا تكونين كفلانة تشتغل وتأتي بالمال؟!...
البيت والأولاد؟ كلُّ الزوجات عندهُنَّ بيتٌ وأولاد…"،
تصوَّري كم اشتُغِل علينا حتى تشوَّهت عبارة (عمل المرأة في بيتها)
وانحصرت في أذهاننا بالجمادات من المجلى والغسّالة والمكنسة والثلاجة.
لمَّا نسمع باستمرارٍ عن أبناء -وبعضهم من عوائل تُصنَّف على أنَّها ملتزمةٌ-